بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
د محمد الراضي بن سيدي حمزة كنون الحسني
الإدريسي
وُضِعَ عَلَيَّ سؤَالٌ مِنْ طرَفِ شخْصٍ يشتَغِلُ في إحدى مراكِزِ المُكَالَمَاتِ الهاتِفِيَّةِ، ذَكَرَ فيه أَنَّ العمَلَ الذي يشتَغِلُ فيه يتَطَلَّبُ منْهُ الاستغرَاقَ في التَّعَامُلِ مع الزُّبَنَاءِ على مَدَى ساعَاتٍ مُتَوَاليَاتٍ، لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْرَحَ مكتَبَهُ فيها إلى مَكَانٍ آخَرَ حسَبَ ظرُوفِ العمَلِ.
وذَكَرَ لي أنَّهُ يجْتَهِدُ كثيرًا في عَدَمِ إِخْرَاجِ صلوَاتِهِ المكتُوبَةِ عَنْ وقتِهَا، وأنَّهُ لا يسْتَطِيعُ حَمْلَ الوُضُوءِ، أَيْ الطَّهَارَة المائية أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ أو سَاعَتَيْنِ، فهَلْ يجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صلَاةَ العَصْرِ إِنْ خافَ فوَاتَ وقْتِهَا، مَعَ العِلْمِ أَنَّ ظُرُوفَ عمَلِهِ لَا تَسْمَحُ لَهُ إطلَاقًا بمُغَادَرَةِ مكْتَبِهِ إلى مكَانٍ آخَرَ، ولَوْ إلى مَحَلِّ الوُضُوءِ مَثَلًا.
أقُولُ: اعْلَمْ يا أَخِي أَنَّ الصَّلَاةَ في وَقْتِهَا خيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا فِيهَا،وأَدَاءُ الصلَوَاتِ المكتُوبَةِ في وَقْتِهَا المطْلُوبِ أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ انْطِلَاقًا مِنْ قولِهِ تعالى: فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا، ولَا نُطِيلُ بالكلَامِ في هذا الصَّدَدِ، فهُوَ معْرُوفٌ منْصُوصٌ علَيْهِ في بَابِهِ.
ولَا يخْفَى على أَحَدٍ أَنَّ طريقَتَنَا التجانيَةَ تحُضُّ مُرِيدِيهَا على المحَافظَةِ على الصلَوَاتِ في وقْتِهَا، بَلْ وفِي الجمَاعَةِ إِنْ أَمْكَنَ، وهذا شَيْءٌ طَبِيعِي لَا يختَلِفُ فيهِ اثْنَانِ.
لكِنْ يا أَخِي، كَمَا للصلَوَاتِ المكتُوبَةِ أوقَاتٌ مضبُوطَةٌ فلَهَا أيْضًا شرُوطٌ ووَاجِبَاتٌ وآدَابٌ ومسْتَحَبَّاتٌ، ولا تجُوزُ إطلَاقًا إِلَّا بتَوَفُّرِ شرُوطِهَا، ومِنْ شرُوطِهَا الطهَارَةُ المائيَةُ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، عَدَمُ وُجُودِ المَاءِ، أَوْ عَدَمُ القُدْرَةِ على استِعْمَالِهِ، ففي هَذَيْنِ الحالَتَيْنِ يُمْكِنُهُ الانتِقَالُ إلى الطهَارَةِ التُّرَابِيَةِ التي هِيَ التيَمُّمُ وإِلَّا فَلَا.
أَمَّا حَالَتُكَ التي سأَلْتَنَا عنْهَا فهِيَ بخِلَافِ هذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، إِذْ هِيَ مرتَبِطَةٌ بوُجُودِ المَاءِ وتوَفُّرِهِ، غيْرَ أَنَّكَ لا تسْتَطِيعُ الوُضُوءَ، لِأَنَّهُ غيْرُ مسْمُوحٍ لَكَ بالخُرُوجِ مِنْ مكْتَبِكَ إلى مَحَلِّ الوُضُوءِ، ولهَذَا أَقْدَمْتَ كَمَا قُلْتَ على أدَاءِ صلَاةِ العَصْرِ بالطهَارَةِ التُّرَابِيَةِ مخَافَةَ خُرُوجِ وقْتِ هذِهِ الصَّلَاةِ.
أقولُ لَكَ يا أَخِي: لا ينْبَغِي لَكَ أَنْ تُصَلِّيَ صلَاةً مِنَ الصلَوَاتِ الخمْسِ المكتُوبَةِ بالطهَارَةِ التُّرَابِيَةِ، مَعَ العِلْمِ أَنَّ المَاءَ في هَذِهِ الحالَةِ موجُودٌ غيْرُ مُنْعَدِمٍ، فصلَاتُكَ في هَذِهِ الحالَةِ باطِلَةٌ، لِأَنَّ فيها إِخْلَالًا بشرْطِ الطهَارَةِ، وشرْطُهَا عنْدَ الفقَهَاءِ المُعَوَّلِ علَيْهِمْ في هَذَا الشَّأْنِ مُقَدَّمٌ على شرْطِ الوَقْتِ. والصَّوَابُ في هذِهِ الحالَةِ أَنْ تَفْرَغَ مِنْ عمَلِكَ والْتِزَامَاتِكَ فيه، وتتَوَضَّأَ لصلَاتِكَ وتُصَلِّيهَا ما دَامَ المَاءُ موجُودًا، ولَا علَيْكَ وأَنْتَ في هذِهِ الحالَةِ في خُرُوجِ وقْتِهَا، بَلْ الأَهَمُّ أَنْ تُصَلِّيهَا بشُرُوطِهَا، والطهَارَةُ هِيَ أَهَمُّ هذِهِ الشرُوطِ بدُونِ منَازِعٍ.
ولَا اعْتِدَادَ بقَوْلِ بعْضِهِمْ: المحافَظَةُ على الأوْقَاتِ أَوْلَى مِنَ المحافَظَةِ على الطَّهَارَةِ، وقَدْ تحَدَّثَ سيِّدُنَا الشيْخُ أَبُو العباسِ التجاني رضي الله عنه عَنْ هذِهِ القاعدَةِ في كِتَابِ الجامِعِ للعلامَةِ سيدي محمد بن المشري فَقَالَ:
بَابٌ فِي مَسَائِلَ فِقْهِيَّةٍ قَالَ فِيهَا سَيِّدُنَا الشيخ التجاني رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا فِي الكُتُبِ، إِنَّمَا بَعْضُهَا بَاطِلٌ وَبَعْضُهَا فِيهِ تَفْصِيلٌ. أَوَّلُهَا: قَوْلُهُمْ المُحَافَظَةُ عَلَى الأَوْقَاتِ أَوْلَى مِنَ المُحَافَظَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ، يَعْنِي أَنَّ الحَاضِرَ الصَّحِيحَ عِنْدَهُمْ إِذَا خَافَ خُرُوجَ الوَقْتِ بِاسْتِعْمَالِهِ لِلمَاءِ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي لِلقَاعِدَةِ المَذْكُورَةِ.
قَالَ سَيِّدُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَهَذِهِ القَاعِدَةُ لَا تَصِحُّ لِمُخَالَفَتِهَا لِلنَّصِّ، بَلْ يَتَوَضَّئُ وَلَوْ خَرَجَ الوَقْتُ وَيُصَلِّي، لِأَنَّهُ إِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوُا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى إِلَى حَتَّى تَغْتَسِلُوا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ. الآيَةُ. وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّئَ. انْتَهَى.
وَلَمْ تُبَحِ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا لِمَرِيضٍ أَوْ عَادِمِ المَاءِ، وَأَمَّا الحَاضِرُ الصَّحِيحُ إِذَا خَافَ خُرُوجَ الوَقْتِ لِعُذْرٍ كَنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَإِنَّهُ لَا تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ، بَلْ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي وَلَوْ خَرَجَ الوَقْتُ عَلَيْهِ، وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ صَاحِبَ عُذْرٍ، فَإِذَا تَيَمَّمَ عَلَى هَذِهِ الحَالَةِ وَصَلَّى فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ. انْتَهَى.
قُلْتُ: لِأَنَّ القَاعِدَةَ إِذَا خَالَفَتِ القَوَاطِعَ فَلَا عِبْرَةَ بِهَا وَلَا عَمَلَ عَلَيْهَا، بَلْ العَمَلُ عَلَى مَا فِي النُّصُوصِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْهَا إِلَّا لِصَارِفٍ شَرْعِيٍّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَرْبَابِهِ وَالسَّلَامُ. [انظر الجامع لما افترق من درر العلوم، للعلامة سيدي محمد بن المشري، بتحقيقنا عليه 2: 926]
وفي هذا القدر من الجاوب كفاية
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله
موضوع التالي
0 تعليقات