يقول العلامة سيدي أحمد بن العياشي سكيرج في كتابه بستان المعارف:
- الصلاة هي المرتبة الثانية بعد التوحيد، ولا أشرف من بعد أداء كلمة الإخلاص، بين سائر الخواص، من إقامة الصلاة، لأنها حضرة مناجاة الواحد الأحد،
- ولا يوفق للدخول لهذه الحضرة إلا من دعاه إليها، فكل من أقامها كان من المدعوين لمناجاته، فيناجيه مشافهة من غير حاجب يحجبه إلا حجاب الجلال الذي لا تهتك حرمته، ولا يدخل لهذه الحضرة طفيلي لم يُدْعَ إليها.
- وكل فرد فرد من هذه الأمة المحمدية دعي إليها على لسان الرسول المبعوث إليها ممن دعاهم، فمن أجاب الداعي حصل على الهدى الخاص، وفاز بالسر الذي عدّ به بين الأمم السالفة من الخواص، وكان من المتقين الذين يؤمنون بالغيب صدقا، ويقيمون الصلاة حقا، فتقر عينه بما ظفر به فيها حسبما قسم له من حظ الوراثة المحمدية، وأحرزه بمتابعته سرا وعلنا لرسوله الذي جاءه بالهدى ودين الحق،
وقد دعا الخلق إليها بأمر الحق، وقام لأدائها بنفسه في حضرة القدس، وشغف بالقيام في حضرات الأنس، حتى قال (وجعلت قرة عيني في الصلاة) لأنها بساط مناجاة ربه الذي أقبل عليه بإعراضه عما سواه، مما حبب إليه من بقية الثلاثة التي صرح بها في قوله عليه السلام (حبب إليّ من دنياكم) الحديث، فإنه في حضرة الصلاة ملتفت عن غيرها من سائر الأشياء، لأنه مشغول بمناجاة ربه فيها،
- وعدد درجات الصلاة عند العارفين من أهل الأسرار، أصحاب الأنس والوصال 522 خمسمائة درجة واثنتان وعشرون درجة، وعند الملامتية منهم 491 أربعمائة درجة وإحدى وتسعون. وعند العارفين منهم أصحاب الأدب والوقوف 127 مائة درجة وسبع وعشرون درجة. وعند الملامتية منهم 96 ست وتسعون درجة. وعند العارفين من أهل الأنوار، أصحاب الأنس والوصال 552 خمسمائة درجة واثنتان وخمسون درجة، وعند الملامتية منهم 521 خمسمائة درجة وإحدى وعشرون درجة، وعند أصحاب الأدب والوقوف منهم 157 مائة درجة وسبع وخمسون درجة، وعند الملامتية منهم 126 مائة درجة وست وعشرون درجة. وكلما زاد عدد الدرجات زاد تمكن المصلي في الترقي في مقام القربة، لأنه يؤديها على الوجه الأكمل، ولا أكمل من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فَذًّا وجماعة، وأعظم جمع أقيمت الصلاة فيه صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في العالم العلوي، ثم صلاته صلى الله عليه وسلم بالصحابة رضوان الله عليهم، فهو في الحالتين نبي ورسول. أما صلاة جبريل به عليه السلام في حضرة الاجتباء، فهي صلاة خاص مع خاص تقصر العبارة عن الوفاء بما يختلج في الصدر من جهة ذلك، فلنصرف عنان القول عنه خشية المسارعة للنكير، ونحن نجتهد في سد هذا الباب، حتى لا يتغير علينا قلب الأحباب.
- وأفضل المقيمين للصلاة على الإطلاق هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صلاة الأنبياء عليهم السلام، ثم صلاة الصحابة، ثم العارفين بعدهم في كل زمان بحسبه، كل على قدر مقامه في العلم اللدني والمعرفة بالله، بالنظر لاستكمال شروط صحتها، من النفل إلى الفرض العيني أداء وقضاء قبل التكليف وحالته وبعده، ويترقى الكل في تلك الدرجات بقدر ما له من إتقان، وخشوع وإخلاص، واستحضار مراقبة ومشاهدة، وذوقا وصحة يقين، واعتقاد صحيح، وكشف صريح، ولكل درجات مما عملوا. فمنهم من يرى النبي صلى الله عليه وسلم طبق ما هو واقع بالكشف أنه أمامه يصلي به في محراب التقرب إلى الحق، بحيث لو كشف له عن بصره لرآه أمامه تابعا له في الصلاة. وباستحضاره لهذا يقيم هذه الصلاة أتمّ إقامة، ويحسنها بإحسانه ويتقنها بإتقانه، كما شاهد ذلك مرارا جل العارفين الغارفين من بحر عرفانه. ومنهم من يرى في التوجه للقبلة عين الكعبة متجلية قبالته، وهو عنها بعيد بحسب القطر الذي هو فيه مقيم، فيصلي صلاته في غاية المقابلة، فيكون بتوجهه الحسي متوجها بقلبه للحق، وذلك نفس القبلة عند العاشقين، ولذلك قال قائلهم مخاطبا لمحبوبه:
يا قبلتي في صلاتي = إذا وقفت أصلي
ولقد حدثني سيدنا الوالد - قدس سره - أن بعض العارفين كان إذا وقف في صلاة إماما في المحراب يرفع برأسه إلى هنا وإلى هنا كالمستشرف الذي يتطلب شيئا ليحقق النظر إليه أمامه، وبعد تثبته يحرم بالصلاة، فقيل له في ذلك فقال: أتطلب عين الكعبة، فيسترها عن عيني بعض الخيالات من أمامي، فجاء بعض أهل الفضول من الممتحنين ووقف من ورائه محتالا، فصار ينظر بنظره فشاهد الكعبة، فأحرم تائبا إلى الله تعالى من سوء اعتقاده في أهل الله. ومنهم من يرى الملأ الجم من الملائكة محرمين بالصلاة معه، مع كثير من مؤمني الجن يصلون معه، سيما إذا أقام الصلاة جهرا فيكون إماما لهم، والحال أنه فذ في مصلاه، فيداخله حال تقضي عليه بالقيام بها أتمّ قيام.
.....
إلى قوله:
- يتعين في حق مريد الدخول لهذه الحضرة الإلهية (حضرة الصلاة) أن يكون لابسا لحلل ثلاثة: الحلة الأولى حلة الإيمان بعد تجرده من لبس الشرك بغسل القلب من درنه بمطلق التوحيد في العامة، وبمقيده في الخاصة، فيكون متحليا بحلة الإيمان التي تكسوه جمالا، فيلحظه ملأ الملائكة بعيون التجلة ويستغفرون له، لأنهم يستغفرون للذين آمنوا كما أخبر عنهم الحق بذلك في كتابه الكريم، فقالوا كما قال (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين آمنوا)
من تحلى بحلية الإيمان = وتخلى عن خلة الكفران
نال سرا يسره في الورى دنـ=ـيا وأخرى ونال كل الأماني
وغدا ملحوظا بعين احترام = دائما بين سائر الأعيان
وترى حلة القبول عليه = ويباهي بها على الأقران
وقد أمر الحق سبحانه بتطهير القلب فقال مخاطبا لنبيه عليه السلام لتتنبه أمته لذلك (وثيابك فطهر) وفسرت الثياب هنا بالقلب على حد قول امرئ القيس:
وإن تك قد ساءتك مني خليقة ... = ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
الحلة الثانية، حلة الطهارة، وهي حلة يلبسها المتطهر كلما أسبغ وضوءه يراها عليه المفتوح عليهم بحسب الصبغة التي صبغت بها من طهارة مائية أو غير مائية، من حدث أكبر أو أصغر، فلا ينبغي له الدخول لهذه الحضرة إلا إذا كان على طهارة تامة، ووضوء شرعي. وهذه الحلة تُرْفَعُ عن المتجمل بها بمجرد ما يصدر منه ناقض من النواقض.
الحلة الثالثة ستر العورة بما أمكنه من اللباس الطاهر، جديدا كان أو باليا، وأحسن لباس في الجمعة ما كان أبيض، ولو لم يكن جديدا، والجديد في العيدين أحسن من غيره، ولباس التقوى خير منه في سائر المشاهد، فقد قال تعالى (ولباس التقوى ذلك خير) ولقد أجاد القائل:
إذا المرء لم يلبس لباسا من التقى = تجرد عريانا ولو كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه = ولا خير فيمن كان لله عاصيا
...
إلى قوله:
- إن التوجه للحق في هذه الحضرة يكون بالقلب، ويكون بالقالب، فهو بالقالب يكون بمواجهة القبلة التي فيها بيت الله، وقد شرفها بإضافتها إليه، مع تنزهه جلت قدرته عن الجهة والحلول.
وفي حال التوجه له بالقالب الذي هو الجسم في مواجهته يكون من العارف التوجه القلبي إلى الحق، معرضا عن كل ما سواه، نافضا يديه من الدنيا ومن كل ما سوى الله، عند الإحرام الذي يناجيه في هذه الحضرة حقا. قائلا بلسان المقال والحال (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) ويقبل بكليته على شأنه، فذّاً كان أو إماما أو مأموما حتى يخرج من هذه الحضرة بسلام، فإنها حضرة رفيعة المقام، وفيها قلت:
هذه الحضرة فيها = كل شيء يتجلى
قد تجلى الحق فيها = وبها الغير اضمحلا
من يرى فيها سواه = فهو ما في القوم صلى
لم يزل إبليس فيها = يشغل الأفكار شغلا
يجلب الأوهام فيها = ويحل العزم حلا
ثم لا يبرح حتى = يترك العبد المصلى
موضوع سابق
موضوع التالي
0 تعليقات