مَوْلِدُ الشَّيْخِ أَبِي العَبَّاسِ التِّجَانِي
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَاعْلَمْ أَنَّ سَيِّدَنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ بِقَرْيَةِ عَيْنِ مَاضِي. وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي المُنْيَةِ بِقَوْلِهِ :
حَصَلَ مَفْخَرُ العُلا حِينَ وُلِدْ * بِعَيْنِ مَاضٍ ذَا بِفَضْلِهَا شُهِدْ
وَمِنْ أَلْطَفِ مَا تَضَمَّنَ هَذَا التَّارِيخُ الدَّالُّ عَلَى تَخْصِيصِ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالخَتْمِيَّةِ وَالكَتْمِيَّةِ مَا تَفَطَّنَ لَهُ أَخُونَا وَشَيْخُنَا العَلَّامَةُ الرَّئِيسُ سَيِّدِي الحَاجُّ عَبْدُ الكَرِيمِ بَنِّيسُ. وَذَلِكَ جُمْلَةُ قَوْلِهِ :{مَوْلِدُ الخَتْمِ } بِحِسَابِ الجُمَّلِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الأَلِفِ لِعَدَمِ ظُهُورِهَا فِي اللَّفْظِ. وَقَدْ أَشَرْتُ لَهُ بِقَوْلِي
مَوْلِدُ الخَتْمِ مُشِيرٌ * لِكَمَالَاتِ التِّجَانِي
ضِمْنُهُ مَعْنَى بَلِيغٌ * قَالَهُ أَهْلُ المَعَانِي
وَقَدْ أَشَرْتُ لَهُ أَيْضاً عَلَى طَرِيقِ التَّارِيخِ المُتَوَّجِ بِقَوْلِي :
م … مَوْلَاي أَنْت المُرْتَجَى لِي فِي الوَرَى * وَسِوَاكَ لَا أَرْجُوهُ طُولَ حَيَاتِي
و … وَجَّهْتُ آمَالِي إِلَيْكَ وَحَاشَ لَا * أَلْقَى مُرَادِي فِي جَمِيعِ جِهَاتِي
ل … لَمْ أَخْشَ مِنْ بَيْنِ الوَرَى كَيْدَ العِدَا * مَا دُمْتَ عِنْدِي سَاتِراً عَوَرَاتِي
د … دُنْيَايَ تَصْلُحُ بِالمَحَبَّةِ فِيكَ وَالـ * ـسَيِّئَات تُرجَع لِي بِكُم حَسَنَات
ل … لِلَّهِ مَا قَدْ نِلْتَهُ بَيْنَ الوَرَى * مِنْ رِفْعَةٍ يَا صَفْوَةَ السَّادَاتِ
خ … خُتِمَتْ بِرُتْبَتِكَ الوِلَايَةُ وَانْتَهَتْ * فِيكَ السِّيَادَةُ فِي كَمَالِ صِفَاتِ
ت … تَعْنُو لَكَ القُطَبَاءُ وَالأَغْوَاثُ وَالـ * ـأَبْدَالُ كُلُّهُمْ مَدَى الأَوْقَاتِ
م … مَوْلَايَ جُدْ لِي بِالأَمَانِ وَبِالرِّضَا * فَعَلَى النَّبِيِّ وَعَلَيْكَ خَيْرُ صَلَاةِ
…
نشأته رضي الله عنه:
وَتَرَبَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حِجْرِ وَالِدَيْهِ الكَرِيمَيْنِ. أَمَّا وَالِدُهُ فَهُوَ العَالِمُ الكَبِيرُ الوَلِيُّ الشَّهِيرُ سَيِّدِي مَحَمَّدٌ فَتْحاً بْنُ المُخْتَارِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَحَمَّدٍ فَتْحاً بْنِ سَالِمَ. وَأَمَّا أُمُّهُ فَهِيَ الوَلِيَّةُ الصَّالِحَةُ ذَاتُ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ بِنْتُ الوَلِيِّ الجَلِيلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ سَيِّدِي مُحَمَّدٍ بْنِ السَّنُوسِي التِّجَانِي المَضَاوِي رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الجَمِيعِ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ صَاحِبُ المُنْيَةِ بِقَوْلِهِ :
مَا أَنْجَبَتْ خَوْدٌ مِنَ الغَوَانِي * فِي كُلِّ مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ
كَمِثْلِ أُمِّ شَيْخِنَا الرَّبَّانِي * عَائِشَةَ الطَّاهِرَةِ الْحَصَانِ
فَمَا لِحَوَّائِيَّةٍ فَخْرٌ كَمَا * لَهَا بِشَيْخِنَا إِمَامِ الْعُلَمَا
سِوَى اللَّواتِي جِئْنَ بِالمُخْتَارِ * وَحِزْبِهِ وَصَحْبِهِ الأَخْيَارِ
إِذْ أَنْجَبَتْ بِهِ رِضاً مُسَدَّدَا * مُهَذَّباً مُمَجَّداً مُسَوَّدَا
مِنْ بَعْلِهَا ذِي الشَّرَفِ الطِّينِيِّ * وَالشَّرَفِ العِلْمِيِّ وَالدِّينِيِّ
مَحَمّدٍ نَجْلِ الْفَتَى الْمُخْتَارِ * نَجْلِ الرِّضَى أَحْمَدَ ذِي الْفَخَارِ
نَجْلِ المُفَخَّمِ الإِمَامِ العَالِمِ * سَيِّدِنَا مَحَمَّدِ بْنِ سَالِمِ
وَفَاةُ أَبَوَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
تُوُفِّيَتْ أُمُّ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ زَوْجِهَا وَالِدِ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الجَمِيعِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِالطَّاعُونِ، وَدُفِنَا مَعاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِعَيْنِ مَاضِي سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ. وَلَهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوْلَادٌ غَيْرُ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذُكُوراً وَإِنَاثاً، وَمَاتُوا كُلُّهُمْ قَبْلَ مَوْتِهِمَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُمَا مَعَ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَّا أَخُوهُ سَيِّدِي مُحَمَّدٌ المُكَنَّى بِابْنِ عَمْرٍ وَأُخْتُهُ رُقَيَّةُ. وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِ إِلَى مَنْزِلِهِ وَيُكْرِمُهَا وَيُوَاسِيهَا وَيُرْضِيهَا حَتَّى يَبْعَثَهَا إِلَى مَكَانِهَا بِعَيْنِ مَاضِي. وَقَدْ تُوُفِّيَتْ رَحِمَهَا اللَّهُ هُنَاكَ فِي حَيَاةِ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بِدَايَةُ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَزْوَاجُهُ وَأَوْلَادُهُ:
وَاعْلَمْ أَيْضاً أَنَّ سَيِّدَنَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ نَشَأَ فِي عَفَافٍ وَصِيَانَةٍ، وَتَقْوَى وَدِيَانَةٍ، مَحْرُوساً بِالعِنَايَةِ، مَحْفُوفاً بِالرِّعَايَةِ، مُقْبِلاً عَلَى الجِدِّ وَالإِجْتِهَادِ، مَائِلاً إِلَى الرُّشْدِ وَالإِنْفِرَادِ، مُتَطَلِّباً لِلدِّينِ، وَسنَنِ المُهْتَدِينَ. مُشْتَغِلاً بِالقِرَاءَةِ. مُعْتَاداً لِلتِّلَاوَةِ. حَفِظَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ القُرْآنَ حِفْظاً مُتْقَناً فِي سَبْعَةِ أَعْوَامٍ عَلَى الأُسْتَاذِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ سَيِّدِي مُحَمَّدٍ بْنِ أَحْمَدَ التِّجَانِي. ثُمَّ اشْتَغَلَ بِقِرَاءَةِ العِلْمِ الشَّرِيفِ، فَقَرَأَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ العُلَمَاءِ الجُلَّةِ، مِنْ فُحُولِ هَذِهِ المِلَّةِ، بِعَيْنِ مَاضِي وَغَيْرِهَا، إِلَى أَنْ تَبَحَّرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ.
ثُمَّ مَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَةِ، وَالبَحْثِ عَنِ المَعَارِفِ الإِلَهِيَّةِ وَالأَسْرَارِ الخَفِيَّةِ، وَسَافَرَ فِي طَلَبِ ذَلِكَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى بَلَغَ غَايَةَ مَا قَصَدَ، بَعْدَ أَنْ تَلَاقَى مَعَ جَمْعٍ مِنَ العَارِفِينَ، وَالأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الجَمِيعِ
وَقَدْ كَانَ زَوَّجَهُ وَالِدَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِمَا لَمَّا بَلَغَ الحُلُمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ اعْتِنَاءً بِشَأْنِهِ، وَحِفْظاً لَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ، وَصَوْناً لِأَمْرِهِ مُرَاعَاةً لِلسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ بِالمُبَادَرَةِ بِذَلِكَ. وَكَانَ تَزْوِيجُهُ سَنَةَ 1165هـ، ثُمَّ طَلَّقَهَا سَيِّدُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ رَآهَا شَغَلَتْهُ عَنْ مَقْصُودِهِ الأَهَمِّ مِنَ الجِدِّ وَالإِجْتِهَادِ، وَحَيْثُ لَمْ تُوَافِقْهُ فِيمَا رَامَهُ مِنَ العِبَادَةِ وَسُلُوكِ سَبِيلِ الرَّشَادِ .
وَلَمَّا حَصَّلَ سَيِّدُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَقْصُودَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ التَّزْوِيجَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ بِمُقْتَضَى الإِقْتِدَاءِ بِالسُّنَّةِ، اشْتَرَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَتَيْنِ مُبَارَكَتَيْنِ، وَتَزَوَّجَ بِهِمَا بَعْدَ عَتْقِهِمَا. وَنَالَتَا مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الحَظَّ الوَافِرَ مِنَ المَوَدَّةِ التَّامَّةِ الَّتِي نَالَتَا بِهَا مِنَ الفَتْحِ المُبِينِ وَالمَقَامِ المَكِينِ فِي الدِّينِ مَا يُبْهِرُ العُقُولَ، وَلَا يُدْرِكُهُ الأَكَابِرُ مِنَ الفُحُولِ.
فَالأُولَى هِيَ الدُّرَّةُ المَكْنُونَةُ، وَاللُّؤْلُؤَةُ المَصُونَةُ، السَّيِّدَةُ مَبْرُوكَةُ، ذَاتُ الحَزْمِ الشَّدِيدِ، وَالرَّأْيِ السَّدِيدِ. كَانَتْ رَحِمَهَا اللَّهُ شَدِيدَةَ البُرُورِ بِسَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَامِعَةً لَهُ وَمُطِيعَةً. وَكَانَ يُحِبُّهَا مَحَبَّةً خَاصَّةً لِشِدَّةِ اعْتِنَائِهَا بِهِ. لَا سِيَمَا حِينَ رَزَقَهَا اللَّهُ مِنْهُ الخَلِيفَةَ الكَبِيرَ، وَالعَارِفَ الشَّهِيرَ، سَيِّدَنَا مُحَمَّدَ الكَبِيرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَا زَالَتْ مَعَهُ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَيِّدُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ رَحِمَهَا اللَّهُ.
وَالثَّانِيَةُ هِيَ السَّيِّدَةُ الغَالِيَةُ، المُتَّصِفَةُ بِالهِمَّةِ العَالِيَةِ، السَّيِّدَةُ مُبَارَكَةُ، ذَاتُ القَلْبِ السَّلِيمِ، وَالفَضْلِ العَمِيمِ، وَالمَآثِرِ الفَاخِرَةِ، وَالكَرَامَاتِ الظَّاهِرَةِ. قَدِ اخْتَارَهَا سَيِّدُنَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِنَفْسِهِ، وَطَابَتْ لَهُ بِهَا أَوْقَاتُ أُنْسِهِ، وَكَانَ يُحِبُّهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحَبَّةً خَاصَّةً لَاسِيَمَا حِينَ أَكْرَمَهَا اللَّهُ مِنْهُ بِخَلِيفَتِهِ الأَعْظَمِ، الجَامِعِ بَيْنَ مَقَامَاتِ العِرْفَانِ، الشَّائِعِ فَضْلُهُ بِالتَّوَاتُرِ فِي سَائِرِ البُلْدَانِ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الحَبِيبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَا زَالَتْ مُجِدَّةً بِالإِسْرَاعِ فِي كُلِّ مَا يَجْلِبُ السُّرُورَ لِسَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَيِّدُنَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ.
وَكَانَتْ مَعَ ضَرَّتِهَا السَّيِّدَةِ مَبْرُوكَةَ فِي أَحْسَنِ عِشْرَةٍ، مَعَ اتِّصَافِهِمَا مَعاً بِحُسْنِ المُعَاشَرَةِ مَعَ أَقَارِبِ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعَ مَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمَا فِي دَارِهِ المُبَارَكَةِ عَلَى طُولِ الاجْتِمَاعِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الخَدَمِ وَالعَبِيدِ كَانُوا عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ اعْتِنَاءِ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالجَمِيعِ الاِعْتِنَاءَ الشَّدِيدَ، مَعَ سِرِّ تَرْبِيَتِهِ السَّارِي فِي الأَحْرَارِ وَالعَبِيدِ. وَإِذَا رَأَى مَنْ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الأَدَبُ، وَلَا يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ ذَوِي الحَسَبِ، يُخْرِجُهُ مِنْ دَارِهِ وَلَا يُقَرِّبُهُ، وَيُنَبِّهُ عَلَى أَفْعَالِهِ لِمَنْ يَصْحَبُهُ.
وَفَاتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الخَمِيسِ السَّابِعِ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ عَامَ 1230هـ، وَعَدَدُ سِنِّي عُمْرِهِ ثَمَانُونَ سَنَةً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَحَضَرَ خُرُوجَ رُوحِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الإِخْوَانِ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الصُّبْحَ اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى اضْطِجَاعِهِ عَلَى حَالَتِهِ، فَطَلَعَتْ رُوحُهُ الكَرِيمَةُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَصَعِدَتْ إِلَى مَقَرِّهَا الأَقْدَسِ.
وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ المُبَارَكَةَ مَا لَا يَكَادُ يُحْصَى مِنْ عُلَمَاءِ فَاسٍ وَصُلَحَائِهَا وَفُضَلَائِهَا وَأَعْيَانِهَا وَأُمَرَائِهَا. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ مَوْلَانَا سُلَيْمَانُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ بِالحَضْرَةِ المُرَّاكُشِيَّةِ لَحَضَرَ بِنَفْسِهِ جَنَازَتَهُ مَعَ مَنْ حَضَرَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ إِمَاماً العَلَّامَةُ الأَوْحَدُ، وَالمُفْتِي المَاهِرُ الأَمْجَدُ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَيِّدِي مُحَمَّدٌ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدُّكَّالِي نِسْبَةً إِلَى الإِمَامِ التُّونُسِيِّ الشَّهِيرِ. وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى حَمْلِ نَعْشِهِ المُبَارَكِ المَيْمُونِ، وَكَسَّرُوهُ بِإِثْرِ دَفْنِهِ أَعْوَاداً صِغَاراً ادَّخَرُوهَا لِلتَّبَرُّكِ بِمَا حُمِلَ فِيهِ مِنَ السِّرِّ المَصُونِ. ثُمَّ وُضِعَ فِي ضَرِيحِهِ، وَالقُلُوبُ مُنْفَطِرَةٌ لِفَقْدِهِ، وَكُلُّ حَاضِرٍ دُمُوعُهُ جَارِيَةٌ عَلَى خَدِّهِ، وَذَلِكَ بِمَوْضِعِهِ المَعْلُومِ بِزَاوِيَتِهِ المُبَارَكَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَبِالجُمْلَةِ بَعْدَ هَذَا ـ كَمَا فِي البُغْيَةِ ـ فَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ حَضَرَ مَوْتَهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ اليَوْمَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، تَسَاوَى بِهِ فِي الإِزْدِحَامِ عَلَى تَشْيِيعِ جَنَازَتِهِ وَحَمْلِهَا وَحُضُورِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ المُعْتَقِدُ وَالمُنْتَقِدُ وَالمُقِرُّ وَالجَحُودُ. فَهَنِيئاً لِتِلْكُمُ الحَضَرَاتِ الشَّرِيفَةِ المُنَوَّرَةِ، بِمَا ضَمَّتْهُ مِنْ أَعْظَامِهِ الطَّيِّبَةِ الزَّاهِرَةِ المُطَهَّرَةِ، ثُمَّ هَنِيئاً فَهَنِيئاً لَا يَنْحَصِرُ تِعْدَادُهُ وَتِكْرَارُهُ لِمَنْ ضَمَّهُ جِوَارَهُ، وَإِنْ نَزَحَتْ بِهِ فِي المَشَاهِدِ دَارُهُ وَشَمِلَتْهُ عِنَايَتُهُ وَأَنْوَارُهُ وَإِنْ شَطَّ بِهِ مَزَارُهُ، جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِمَحْضِ فَضْلِهِ فِي جِوَارِهِ الَّذِي لَا يُضَامُ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَفِي دَارِ المَقَامِ، بِجَاهِ مَا لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ أَكِيدِ الذِّمَمِ وَعَظِيمِ الحُرَمِ آمِينَ .إهـ.
وَإِلَى تَارِيخِ وَفَاةِ سَيِّدِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَشَارَ صَاحِبُ المُنْيَةِ بِجُمَّلِ حُرُوفِ عَجُزِ هَذَا البَيْتِ:
وَحِينَ مَاتَ شَيْخُنَا التِّجَانِي * مَاتَ الإِمَامُ العَارِفُ الرَّبَّانِي
موضوع سابق
موضوع التالي
0 تعليقات